حكاية اختفاء شبان في الصحراء الكبرى_القصة الأخيرة

القصة الأخيرة تنزروفت

قصة متاهة الصحراء


لكل منا مبتغى وهدف في الحياة يريد الوصول إليه وتحقيقه ، وكان هدفي أنا استكشاف العالم بكل بقاعه مهما كلفني بُعد السفر بعيدا عن أهلي ومهما بلغت الظروف من حولي ، الشغف وحب خوض المغامرات كان يسري في عقلي منذ الصغر ، وصدق من قال ' من شبّ على شيء شاب عليه ' ، وها أنا أبلغ اليوم 33 سنة من عمري ولازلت متمسكا بهدفي في استكشاف العالم بأسره ...أنا خالد وهذه قصتي ...

بعد عودتي من سفري للصين وكعادتي عند زيارتي واستكشافي لكل بلد أن أقوم بوضع علامة ( اكس) على قائمة الدول والمعالم التي لم أزرها ، وكانت هناك في القائمة التي لم أزرها صحراء الجزائر " سيفار " وتقع في ولاية " ايليزي" جنوب شرق العاصمة ، وهي أكبر مدينة صخرية في العالم منذ 1500 سنة ، وتحتوي علي نقوش ورسومات أصابت العلماء بالذهول والحيرة مثل : ألبسة غطس ، وصحون فضائية ...واختراعات لم تكن في الأصل موجودة من قبل ، فأطلق عليها العلماء مثلث برمودا الأرضي ، ساقني فضول الاكتشاف لمثل هكذا أماكن فوضعتها على قائمة الأماكن التي سأزورها .

 وفي أحد الأيام استدعاني صديقي ويدعى " أمير" ، لأحضر حفلة نجاح أخيه الصغير وهناك التقيت بأصدقاء الماضي ، أكلنا مع بعض وتقاسمنا الفرحة ، وعند العودة إلى المنزل أخذنا موعدا للتلاقي في الغد ، وكما هو الحال اجتمعنا نحن الخمسة مع بعض وتشاركنا ذكريات الماضي والضحك يعلو حديثنا ، ولا زلت أتذكر ذلك الرجل المجنون الذي مرّ علينا وقال لنا : " ستتفرقون قريبا ولن يبقى منكم أحد قط " ، تعجبنا من طريقة كلامه ولم نعره أي اهتمام ، إلاّ أنا فقد بقيَت جملته راسخة في عقلي إلى غاية يوم.......

سألت أصدقائي الأربعة إن كانوا يريدون السفر معي إلى الجزائر لزيارة الصحراء ، فوافقوا على الفور إلا صديقنا أمير رفض لعدم امتلاكه تكاليف السفر ، فقلنا له : " كل التكاليف علينا نحن...اذهب ورتب حقيبتك " ، وفي صباح يوم الغد ركبنا في الطائرة متوجهين إلى الجزائر العاصمة ، كانت تلك محطتنا الاولى واغتنما فرصة التجول في أزقتها وأخذ الصور للذكريات ، وفي المساء توجهنا إلى فندق بوسط المدينة قصد النوم و الاسترخاء من عناء السفر والتزود بالطاقة للغد .

أيقضنا رنين هاتفي عند 4 فجرا وكان المتصل صاحب سيارة الأجرة التي ستقلنا إلى ولاية ايليزي ، رتبنا أغراضنا وركبنا في السيارة ، كان أصدقائي متعبين من قلة النوم البارحة بسبب تغير المكان والأرق ولكن عكسي تماما لأنني معتاد على النوم في أي مكان في العالم بدون أرق السفر ، تحدثت إلى السائق عن المدة الزمنية إلى وجهتنا ، فقال لنا أنها تبعد مسافة 1800 كلم حوالي 23 ساعة ، تعجبت من كبر هذا البلد وقلت له : " 1800 كلم !! من مدينة إلى مدينة ! " ، نعم إنها قارة الجزائر فهو بلد كبير جدا ويعتبر أكبر بلد عربي من حيث المساحة ، وهذا يزيد فضولي أكثر عند زيارته واكتشافه .

اعتدت الجلوس عند السفر في المقعد الأمامي ، لأجمع معلومات أكثر عن البلد الذي أزوره من السائقين ، حقيقة كنت لا أفهم بعض كلام السائق فقد كانت اللهجة الجزائرية صعبة بالنسبة إليّ ، وفي كل مرة أقول له " لم أفهمك " يبتسم ويعيد كلامه بالعربية الفصحى وهكذا...مضت على رحلتنا 10 ساعات من العاصمة إلى ولاية ايليزي ، وأصدقائي كلهم نائمين عدا أنا والسائق فهو مشغول بالسياقة وأنا بطرح الأسئلة عليه ومبادلته أطراف الحديث ، أصبحت الساعة 7 ليلا ، نزلنا عند احدى المطاعم مقابل الطريق الرئيسي وتناولنا وجبة العشاء ثم أخذنا معنا ماينقصنا من ماء ، وفي الطريق كنت أحاول عدم النوم خشية أن ينام بسببي السائق ويحصل حادث معنا ، ورويدا رويدا بدأ النوم يلعب بعقلي و عيني تغمض ولكن في كل مرة أحاول المقاومة ، حتى رآني السائق فتبسم وقال لي : " نم مثل أصدقائك وخذ قسطا من الراحة....لا تخف فأنا متعود على السفر ليلا ".

تشجعت بكلام السائق وغفت عيني ونمت ، وفي الصباح أيقضنا السائق وقال لنا : " مرحبا بكم في سيفار " ، نزلنا من السيارة ورأينا منظرا مبهرا من تضاريس صخرية كبيرة ، فلم نتردد في النزول اليها واكتشافها ، كانت هناك رسومات ونقوش قديمة جدا ومازاد الجمال روعة وبهجة المزج الذي كان بين الصخور والرمال ، وهناك صادفنا رجل من البدو يعمل مرشد آثار ، رحب بنا و أخذنا في زيارة دامت ساعات كثيرة بين التضاريس وهو يشرح لنا هاته الرسومات والنقوش الغريبة ، وفي كل مرة كان يشرح لنا عن طرق النجاة في الصحراء وعن افارقة مهاجرين تاهو وماتو عطشا وسط الصحراء .

بعد يوم حافل وممتع قررنا أن ننصب خيمتنا وننام وسط هذا المكان المذهل وكان معنا المرشد ، اشعل لنا نارا و قال لنا " انا لا استغني عن النار فهي المؤنسة لدي " ، شربنا معه الشاي وبدأ يخبرنا عن أمور غريبة حدثت معه في هاته المنطقة ، ويحدثنا أكثر عن مكان يسمى طريق تنزروفت ويحذرنا عن عدم السير فيه اطلاقا مهما أخذنا الفضول إليه بسبب التيهان فيه وعن أناس ماتو عطشا وهم عالقين في وسط رماله الشاسعة.

وفي صباح اليوم التالي جمعنا أغراضنا في السيارة استعدادا للعودة إلى العاصمة ، وهناك بدأ الفضول يراودني عن المكان المسمى تنزروفت فأخبرت أصدقائي وكانوا يبادرونني نفس الشعور في استكشافه ، أخبرنا السائق فقال لنا بتأسف : " مهمتي كانت ايصالكم إلى مدينة سيفار فقط والرجوع بكم....لا أستطيع الذهاب معكم إليه أنا آسف " ، فقلنا له : " لا عليك ...فقط أوصلنا إلى مدينة ايليزي ونحن سنتصرف " ، وبالفعل وصلنا الى مدينة اليزي ورجع السائق للعاصمة وحده .

هناك في مدينة ايليزي سألنا عن كيفية الذهاب إلى منطقة تنزروفت ولكن لا أحد من سائقي الأجرة يريد ايصالنا إليها ، وبعد بحث طويل قال لنا أحدهم ساقوم بايصالكم بشرط أن ترفعوا السعر قليلا ، وافقنا وركبنا معه ...وفي الطريق قال لنا أن هذه أول مرة يذهب فيها إلى تلك المنطقة ، قلت له وباستهزاء " ونحن كثيرا ما نزورها " ، كانت سيارته كثيرة الأعطاب ففي كل مسافة نقطعها تتعطل السيارة وينزل ليصلحها وهكذا ...حتى وصلنا إلى لوحة مكتوبة عليها "منطقة تنزروفت تبعد 200 كم ، احذر الابتعاد عن الاشارات " ، وهناك انقطعت الطريق المعبدة وبدأت طريق الرمال ، كانت السيارة صامدة حتى منتصف الطريق حين واجهتنا عاصفة من الرمال قلت للسائق: " المفروض أن تتوقف حتى تمر العاصفة كي لا نتيه عن الطريق " ، فقال لي : " لو توقفت فستغرق عجلات السيارة في الرمال ولن نتمكن من اخراجها " .

أكمل السائق طريقه وسط العاصفة وفجاة ارتطمنا بشيئ ، فقال لنا " إنه كثبان من الرمل...لاتنزلو من السيارة حتى تمر العاصفة " ، مرت العاصفة ونزلنا من السيارة فوجدنا أن العجلات الأربع غاطسة في الرمال الشديدة الحرارة ، أخرج السائق مجرفة وبدأنا في الحفر ولكن بدون أي جدوى فالرمال كثيرة ، حاولنا كثيرا حتى حل علينا الظلام وكان عندنا أمل أن نرى ضوء سيارة ما ، ولكن للأسف قد ابتعدنا كثيرا عن الطريق الرئيسي و تهنا بسبب العاصفة .

مرت الليلة الاولى وفي الصباح قررنا أن ننقسم إلى مجموعتين ونبحث عن الطريق عسى أن ينقذنا أحد ما وتواعدنا على أن نلتقي مجددا عند السيارة ، تقاسمنا الطعام والشراب وانفصلنا في مجموعتين ، كان السائق مع صديقي " عصام و طارق " وأنا مع صديقي " أمير و أمين " ، اتخذنا نحن الثلاثة طريقا مستقيما إلى جبل صخري صغير ، عسى يمكننا الصعود فيه ورؤية الطريق ، وبدأ الوقت يمضي و أشعة الشمس تزداد حرارة وفي كل مرة نرى ذلك الجبل قريب بسبب السراب ولكنه يبعد أكثر وكأنه يهرب منا ، استهلكنا مسافة كبيرة وسط كثبان الرمال و استهلكنا كذلك مياه كثيرة ، فقلت لهم دعونا نرجع للسيارة وننتظر هناك أفضل .

قررنا العودة للسيارة والانتظار هناك ، ولكننا نسينا طريق العودة حتى شبكة الهاتف غير متوفرة لأتصل بأصدقائي ، كلما مشينا أكثر في الرمال تهنا عن مكان السيارة أكثر ، ازداد الارتباك داخلنا والخوف بدأ يدب في قلوبنا ، والماء نفذ منا لم يتبقى لنا سوى الخبز وحده ، جاء المساء ونحن تائهون وسط الصحراء بدون قطرة ماء ، قال لنا حينئذ صديقنا أمير " قلت لكم لن آتي معكم فأجبرتموني وها انا ذا سأموت هنا بسببكم " .

رغرغت عيناي وبدأت في البكاء وتذكرت ذلك المرشد الذي حذرنا من هاته المنطقة اللعينة ولكن لا ينفع الندم ، وتذكرت ذلك الرجل المجنون الذي قال لنا أنه سيأتي يوم وتتفرقون فيه . حلت ثاني ليلة لنا ونحن في أمس الحاجة إلى الماء فقط لا غير ذلك وحتى النوم لم يغني حاجة عنه ، نهضت صباحا وقلت لأصدقائي دعونا نسير مجددا ، فواصلنا المسير لمدة ساعات بدون توقف حتى سقط صديقي" أمين " ، وهو يردد أريد ماء لا أقدر على مواصلة السير ! ، قمنا بتشجيعه وبترك فكرة الماء من عقله ولكن تغلّب عليه العطش الشديد وطلب مني أمرا آخر أبكاني وقتها كثيرا فقال لي : " قم بالتبول على فمي أرجوك " .

  بعدها فقد صديقنا " أمين " وعيه ، فلم نستطع ايقاظه وفعلنا كل مابوسعنا ولكن بدون جدوى ...فقررت أن أحمله تارة أنا وتارة صديقي " أمير" ، حتى وصلنا إلى صخرة فقررنا الاستراحة عندها ، طال بقاؤنل فيها وهناك كانت الفاجعة أكبر حينما تفقدت نبضات قلب " أمين " فوجدتها توقفت .....نعم مات "أمين" عطشا ، بدأنا بالبكاء والصراخ واختلط علينا الأمر اكثر فأكثر وصديقي " أمير " يلومني في كل مرة على قدومه معنا .
  
 حل مساء اليوم الثالث ونحن بجانب جثة صديقنا ، وبعدها قررنا المضي والسير ليلا ، ولم نترك صديقنا المتوفي أمين وحملناه معنا إلى كل مكان نرتاده ، حتى لم أعد أقدر على السير اطلاقا بسبب الجوع والعطش فسقطت مغما عليّ ، ولا زلت أتذكر وأنا أكتب هاته القصة في هاتفي وماحصل معي بالتفصيل من أحداث إلى حين آخر ليلة قضيتها فلم أزد بعدها حرفا من كلامي....لأن "خالد" مات تلك الليلة وأنا صديقه " أمير " .......أكملت آخر أيام قصته بعدما نجوت من متاهة الصحراء الكبرى .


تعليقات