ليست سوى قصة أو حكاية تحكى هي أكثر من ذلك ، فهي قصة حقيقية يرويها أقرب أصدقائه حسام ، الذي يعتبره أكثر من أخ له ، قصة ممزوجة بين المر والحزن ولا مجال فيها للفرح والسرور ، قصة معاناة شاب لم يذق ولم يعرف طعما للفرح أبدا ، والآن نترككم مع قصة الطفل رمزي .
مثل أي جميع الصغار تربى رمزي بين عائلته وكانت العائلة ميسورة الحال ، وكانوا لا يبخلون عليه شيئا من ألعاب وألبسة وووو... ، وكان رمزي منذ صغره يحب أصدقاءه ويحب اللعب معهم وخصوصا صديقه حسام الذي يعتبره أكثر من أخ له ، كانا في صغرهم غير محبب فيهم بين جيرانهم بسبب كثرة الإزعاج واللعب في سلم العمارة وخصوصا في فصل الصيف وبالضبط وقت القيلولة أين يكون جلّ سكان العمارة نائمين ، وفي المساء تجدهم مع أصدقاء الحي يلعبون كرة القدم أو لعبة " النّحلة" كما تعرف في البلدان العربية الأخرى ب " البلبل الدوّار " وكانت من أحب ألعاب الأطفال في ذلك الزمان ، وعندما تمضي الأمسية و يحلّ الليل يجتمع رمزي وأصدقائه على موعد لحكايات الرعب الليلية .
كان صغره له طعم حلو فتجده دائما كثير الضحك و المرح ، وفي يوم كسائر الأيام كان الصديقين رمزي وحسام يتجولون بعيدا عن الحيّ ، وأثناء عودتهم كان هناك صوت ينادي " رمزي ...يا رمزي " فالتفتا فوجداها إمرأة ! اتّجه رمزي نحو تلك المرأة فتبسمت له واحتضنته وهو لا يعرف من تكون ، فقال لها : " من أنتي ؟" ، فلم تجبه قط كانت منشغلة في التأمل فيه ، والتبسم ، وفجأة أدخلت يدها في جيبها أعطته نقودا ورقية ، وانصرفت ، بقي الصديقين في حيرة مما حدث معهم ، وبعدها رجع رمزي وحسام إلى الحي بعدما اشترو ألعابا كثيرة بتلك النقود ، فراود الشكّ الطفل رمزي وأخبر إخوته ووالداه عن الذي حدث معه ، فتبدلت وجوههم غضبا و صرخوا عليه بل وضربوه ، وهددوه من عدم الاقتراب من تلك المرأة ثانية .
وتمضي الأيام والأيام وانقضت عطلة الصيف ورجع رمزي للدراسة رفقة صديقه حسام ، وبعد اكتمال فترة الدوام رجع رمزي وحسام من المدرسة وفي طريقهم صادفوا تلك المرأة ثانية وكأنها كانت تنتظرهم ، فلما رآها رمزي هرب مسرعا وهو يقول لها ويردد بكل صوته " دعيني وشأني....دعيني وشأني أنت لست أمي " ويكرر تلك الجملة ويجري ، والناس كانوا يتفرجون ، فسألوا تلك المرأة " هل ذلك الولد ابنك ؟ " ، فبكت بكاءا شديدا وقالت لهم : " نعم هو ابني " ، تعجّب الطفل حسام مما سمعه ورآه ، وعند عودته إلى المنزل قصّ حسام على والده ما حدث لصديقه رمزي ، فأجابه والده أنّ تلك المرأة أمّه فعلا ، فازداد حسام استغرابا وقال لأبيه : "ومن يكون إخوته ووالده " ، فقال له : " ذلك الذين قاموا بضربه هم أخواله ورمزي ليس له أب " ، فسأله حسام من يكون والده ، فأخبره والده عندما تكبر ستعلم حقيقة الأمر ، وبعد عام من تلك الحادثة كان الطفل حسام في المنزل ودخل والده إلى البيت ومظاهر الحزن بادية على وجهه ، وقال لأم حسام بصوت منخفض : " اليوم توفّيت أم رمزي بعد معاناة مع مرض السكري ، فقد قاموا باستأصال أطراف قدمها ليذهب المرض ولكن بدون جدوى ، هذه مشيئة الله " ،.
فُجع الطفل حسام لما سمعه وخرج مسرعا ليخبر صديقه رمزي عن ما سمعه من أبوه ولكن رمزي سمع الخبر قبله ، وقال لحسام : " وما يعنيني خبر موتها هي ليست بأمي ولا بقريبتي " ، كان هذا ليس قوله فهذا ما قيل له فحسام يعرف جيدا درجة الألم الذي سيمر به رمزي حين يتيقّن بأنها أمه وهو بدون أب ، وتمضي سنين وسنين ويحين انقضاء زمن البراءة والطفولة ومعها ينتهي كل شيئ كان حلوا بالنسبة لذلك الطفل رمزي خاصة عندما توفّيت جدته وجدّه اللذان كان يحسبهم أنهم والداه ، وبدأ أخواله الذين يعتبرهم كذلك اخوته بالتفرق كل في بلاد اخرى ، فبقي معه في المنزل أخوه الأكبر فقط . أكمل حسام دراسته إلى المستوى الأولى ثانوي بينما رمزي سقط في اجتياز شهادة التعليم المتوسط .
ومن هناك بدأ الصديقين رمزي وحسام في اعالة أنفسهم والانتقال إلى الأعمال الحرة من بيع القفف البلاستيكية والسجائر و كل مايشترى ويباع ، وبدأ رمزي في مخالطة أصدقاء آخرين يحرضونه على تدخين الممنوعات وشرب الخمور حتى أدمن عليها ، وكان صديقه حسام ينهاه في كل مرة أن يقطع علاقته بهم ، ولكن رمزي بسبب الهموم والآلام التي يحملها ينجرّ وراء الادمان بغية النسيان ، ويروي حسام جملة كادت تهزّ قلبي من مكانه وأصابتني بالبكاء حقا ، حين نهر صديقه رمزي عن ادمانه للخمر ، فردّ عليه : " أتريدني أن أقلع عن الخمر وأتذكّر أنني تيتّمت مرتين " ، كانت جملة كفيلة ليسكت حسام ولم يزد بعدها حرفا واحدا والدموع مكبلة في عينيه ، وكان بالفعل قد تيتّم مرّتين توفيت أمه الحقيقية وبعدها جدته وجده اللذان كان يحسبهم أنهم والداه ، عاش رمزي الشاب حياة مليئة بالحزن ولا طعم فيها بالفرح أصابته بالاكتئاب .
كان حسام دائما بجواره يذكره بحلوّ الحياة وعدم التفكير في الماضي والعزم على المضي مستقبلا ، حتى جاء وقت رحيل حسام وراء لقمة العيش بانخراطه في الخدمة العسكرية ، وأصبح لا يرى صديقه رمزي إلا في الإجازة صدفة ، وبعدها لم يراه قط . سأل حسام أخوه الأكبر عن رمزي فقال له : " إنه بئس الأخ وأنا بريئ منه ومن سوء أصدقائه بعدك " ، فقال له : " أين هو وماذا حصل معه؟ " ، فرد عليه أنه طرده من منزله بحجة أنه كان يسرق أثاث البيت ويشتري بها الحبوب الممنوعة ، ذهب حسام يسأل ويتحرى طريق صديقه حتى أخبروه أنه في السّجن منذ سنة وأنه محكوم عليه ب 25 سنة سجنا ، والسبب أنهم وجدو عنده كميات كبيرة من الحشيش في إحدى المنازل . وبعدها بأشهر أكمل حسام الخدمة الوطنية .
عاد إلى المنزل ورأى أخوه الأكبر فسأله كعادته عن أخيه رمزي إن كان يزوره في السجن أن يبلّغه السلام ، فبكى بكاءا شديدا وقال له : " لقد رقد رمزي في سلام " ، إنا لله وإنا إليه راجعون ،" لقد أصابه اكتئاب شديد في السجن ووضع حدا لحياته " . رحل رمزي الشاب الذي كان يحمل هما لا تطيقه الجبال وهو في روع الشباب ، رحمك الله يا من تيتّم مرّتين و طُرد من منزله ليحتظنه الشارع الذي لا يعرف الرحمة .
كانت هذه قصة الطفل الحزين رمزي بلسان أعز أصدقائه ، وفيها من العبر مافيها ، الكثير ممن مروا بمثل هاته الظروف وأكبر منها ، القليل منهم من تجاوزها بخير وعافية واستبدل الهم فرحا ، ومنهم من حصل له مثل الشاب رمزي .
اقرأ أيضا : متاهة الصحراء
